كتب: إيمان شمس الدين
كثيرة هي المواد التي يمكن استخدامها بشريا ومن ثم إعادة تصنيعها وإنتاجها بحلة جديدة، هذه العملية تعمل على حفظ البيئة، والاستفادة من المواد المستهلكة، وهي مواد تحتوي على معادن وتركيبات صناعية مهمة في عملية التصنيع وبتكلفة أقل، و إنتاجية أعلى ورأس مال أكبر.
والتاريخ بما يحمله من غث وثمين شئنا أم أبينا رسم معالم الماضي من خلال الشخصيات التي تحكمت في مسار الأحداث، وكان لهذه الشخصيات دورا محوريا في صناعة الحدث وتوجيهه، وبالتالي ترتبت عليه تراكمات كثيرة بعضها غير من وجه المنطقة، وبعضها ثبت واقعا مريرا أورثنا إرثا يكتنز في أحشائه أزمات مستديمة في المنطقة، مما عرقل كثيرا مسيرتها نحو النهضة والتنمية وأحدث فجوة حضارية بينها وبين الغرب.
إذا نحن اليوم ورثة لتاريخ ماض صنعه السابقون وأرسوه كواقع، تراكمت عليه وقائع وكرست مسارات سياسية واقتصادية واجتماعية، وصنعت وعيا توارثته الشعوب وتراكمت على ضوئه تبعات كان كثيرا منها جذورا تبذر في أرضنا لتعيق نمونا وتصنع منه تخلفنا.
فمنذ ضعف الدولة العثمانية ودخول بريطانيا على خطوط المواجهة وفي تنافس كبير مع فرنسا، حيث كانت خبرتهم العسكرية نتيجة أطماعهم التوسعية في أوروبا، و خوضهم حروبا في ذلك، والاكتشافات الجغرافية المتتالية التي اندرجت ضمن الحركة العلمية المتسارعة فيها، جعلتا هذه الدول تطاول برأسها طمعا إلى منطقتنا الغنية بالموارد وذات الجغرافيا الثرية بالتاريخ والثقافات.
وكان السباق لوراثة التركة العثمانية جغرافيا بعد سقوط الخلافة العثمانية، حيث بدت معالم سقوطها تزداد وضوحا لتلك الدول، وبالتالي بدأ من ذلك الوقت التخطيط تحت نزعات الهيمنة والتوسع، مما يتطلب من هذه الدول اكتشاف طبيعة المنطقة السكانية ومعرفة حكامها ونقاط الضعف والقوة.
تركزت حركة الاستعمار على عدة أمور أهمها:
- الجغرافيا وما تحويه من ثروات مادية ومعنوية.
- الخلفية الدينية التاريخية التي تحمل ذكريات مريرة لهزائم متتالية لها في هذه المنطقة، سلبتها في تحقيق الحلم الكبير في الهيمنة على كل مناطقنا في الحملات الصليبية المتتالية.
- التطور العلمي والتقني والنهضة المتسارعة في أوروبا و امتلاكها قدرات استكشافية عالية، حولت نفوذها من اكتشاف الطبيعة إلى الهيمنة عليها، وبالتالي امتلاك مراكز العلم والتصنيع والإنتاج لكل ما يمكن أن يشكل ضروريات للإنسان في حياته، بالتالي امتلاكها لهيمنة تصنيعية و اقتصادية وإنتاجية تمكنها من الاكتفاء الذاتي، ومن امتلاكها القدرة في الهيمنة على أسواقنا في دول كانت ترزح تحت نير الاستبداد والتخلف.
- التخطيط الاستراتيجي، والقدرة على تحويل الخطط إلى حقيقة تفرضها كواقع وتجهد في تثبيتها ليس فقط على الأرض وإنما في الوعي، وصبرها في هذا الصدد لأجل تحقيق أهدافها.
- معرفة نقاط الضعف والعمل على توظيفها في صالح مشروعها التوسعي، وقد بدا ذلك جليا وواضحا عند توطين اليهود في فلسطين وبعد إعلان فلسطين دولة يهودية، حيث استطاعت أن توظف أطماع بعض العائلات المالكة في التمدد والحكم، و طموحات بعض النخب العسكرية والثقافية في الاستقلال دون النظر لخارج حدود الوطن، وضعف الشعوب وقلة حيلتها، في بناء مشروعها التوسعي وتقسيم جغرافيتنا وفق طموحها التوسعي وتطلعاتها في الهيمنة والنفوذ.
كانت تلك الفترة مرحلة فاصلة في تاريخ الأمة، وكان لمواقف كثير من الحكام العرب ونخبه دورا في احتلال فلسطين وفي توريثنا هذا الصراع و استنزاف طاقاتنا على مدى هذه العقود في الحرب والموت والدمار، مما جعلنا نتخلف عن ركب الدول المتقدمة كثيرا.
إذا فتركة التاريخ وأداء الشخصيات التاريخية في حقب زمنية معينة ترثها الأجيال اللاحقة، بكل ما فيها من غث وثمين، وغالبا تراكم عليها أو تكرسها كما هي بكل إيجابياتها وسلبياتها، السابقون من مواقعهم ووفق وعيهم صنعوا أحداث الماضي، ونحن ورثناها بكل ما فيها من شجن وعذاب.
ولكن هل تعني تلك الوراثة القبول بهذه التركة كما هي؟
أم تعني دراسة تفاصيلها ومعرفة كافة الأسباب في النجاح والفشل؟
إن استلامنا لتركة التاريخ التي صنعها أسلافنا يتطلب منا وقفة عميقة في قراءة تفاصيل تلك التركة التاريخية، ومعرفة كل ملابساتها والاستفادة من تجاربها، ومن ثم العمل على إعادة تصنيعها ليس على نسق تصنيع المواد، بل على نسق تصنيع الأحداث التي تزيل عوائق النهضة والتطور، وتمحو كل أسباب الهزيمة والتخلف.
وتواجه كل مؤامرة يعاد استخدامها بصيغ مختلفة لأهداف واحدة، وهي الهيمنة والتوسع. ولإعادة تصنيع التاريخ نحتاج قراءة نقدية له لفهم نقاط قوته وضعفه، ومواضع الإخفاق والفشل والنجاح لمعرفة نقاط القوة والضعف، هذا إضافة إلى محاكمة الشخصيات محاكمة عادلة وموضوعية بعيدا عن أي شخصانية أو أي نفس مذهبي، وفق معايير أخلاقية قيمية توضح مسؤولية كل منهم في صناعة تلك الحقبة التاريخية بإيجابياتها وسلبياتها.
هذا الاطلاع والنقد والمراجعة الدقيقة، تدفعنا لرفض التوارث السلوكي التاريخي الذي كرس واقعنا المتخلف، خاصة من قبل الأنظمة التي كان لها دورا في نكساتنا التاريخية في قضايا الأمة وحفظ كرامتها، هذا فضلا عن نقد أسلوب ومنهج تعاملها معنا كشعوب، وتقييم آلياتها لعدم تكرار ذلك مجددا حتى لا يتكرر بذلك عمليات البيع والشراء لنا وثرواتنا وأوطاننا.
وهذا الرفض يتطلب مواجهة علنية مع وعينا التاريخي، ورصد دقيق لحقبة السقوط وأسبابها.
والمواجهة يجب أن تتناسب مع الأحداث التاريخية التي كانت سببا محوريا في تغيير مساراتنا الحضارية ونكستنا على كافة المستويات:
- ـ المستوى السياسي المتمثل بشخصيات الرؤساء والملوك الذين قادوا الدول سياسيا في تلك الحقب التاريخية.
- – المستوى العسكري والجاهزية في هذا الميدان وأسباب النجاح والإخفاق.
- – المستوى الاقتصادي و الاقتدار المادي.
- – على مستوى الشعوب كجاهزية وعي وإدراك لحجم المؤامرة، وعلى مستوى الاهتمام والمشاركة.
- – على مستوى الأجنبي المستعمر وأساليبه في الهيمنة وقدراته في تحقيق أهدافه.
وكما يقول محمد حسنين هيكل في مقدمة كتابه المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل الجزء الأول:
”فالاهتمام بالسياسة فكرا وعملا يقتضي قراءة التاريخ أولا،لأن الذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا، محكوما عليهم أن يظلوا أطفالا طول عمرهم“.
وعد بلفور وملابسات الواقع:
كانت فكرة إقامة وطن قومي لليهود قد بذرت بذورها من بونابارت، وسقيت بماء الإنجليز الذين رسموا معالم وعد بلفور، وقطفت ثمارها على يد أمريكا التي تخطت البريطانيين في ذلك الوقت، والذين كانوا يمهدون بشكل هادئ الظروف المحيطة لإقامة هذا الوطن، إلا أن الأمريكي كان أكثر سرعة وجرأة في الدفع باتجاه زيادة وتيرة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ودعم العصابات الصهيونية المسلحة بالمال والسلاح، ومن ثم الإعلان عن قيام الدولة الصهيونية على أرض فلسطين بعد احتلالها.
وكذلك اليوم جاء إعلان ترامب قفزة قوية سبقت الأوروبي في حراكه التمهيدي لفكرة القدس كعاصمة للصهاينة. وهو ما حدئ أغلبهم لرفض القرار.
جاء وعد بلفور والإعلان الرسمي عن قيام الدولة الصهيونية في حقبة زمنية مشهدها كالتالي:
- – قيام حربين عالميتين الأولى والثانية.
- – هبوط وارتفاع ٣ امبراطوريات الفرنسية والبريطانية والسوفييتية
- – ظهور وتراجع أربع ظواهر هي : الاستعمار، الفاشية، التمييز العنصري، الشيوعية.
- – عصر اكتشافات علمية هامة هي عصر الكهرباء، عصر الطاقة النووية، عصر الالكترونيات،عصر الفضاء، وعصر الثورة المعلوماتية،
- – نهاية الخلافة العثمانية وتقاسم فرنسا وبريطانيا مداها الجغرافي وفق مصالح كل منهما.
في تلك الفترة كانت الشعوب سباقة لحركة الأنظمة، بل كانت من يفرض القرار في قضية فلسطين المحتلة، وهو قرار ”الرفض“ و ” المقاومة“، رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني ومقاومة وجوده لتحرير فلسطين، إلى درجة كان هناك خوف حقيقي من قبل بعض الحكام خاصة في الأردن والحجاز من اتخاذ أي موقف علني في صالح الصهاينة خوفا من نقمة الشعوب المنتفضة عن بكرة أبيها في مواجهة الاحتلال، وما يقوم به من مجازر بحق الفلسطينيين أصحاب الحق والأرض.
مع أن تلك الفترة لم تكن الثروات المادية بحجم الحالية اليوم، و لم يكن لدى الشعوب ولا الدول ترسانة من الأسلحة المتطورة، بل أغلب المقاومات الشعبية اعتمدت على أسلحة بدائية أهمها البارودة، أو السلاح الأبيض، في مواجهة الاستعمار والاحتلال.
إذا كان المشهد كالتالي:
- سياسيا: مرحلة انتقالية حساسة تبدلت بها قوى وأيديولوجيات حاكمة، ونفذت بها مخططات استعمارية هدفها الهيمنة. مع ضعف ووهن بالخلافة العثمانية ،تفكك في أغلب مفاصلها الجغرافية . وكانت الأسر المالكة الثلاث في العالم العربي: أسرة محمد علي في مصر،والهاشميين خصوصا في بغداد والسعوديين في الرياض.
- اقتصاديا: طبقية صارخة وهدر واضح بمقدرات الشعوب وانتشار كبير للفقر وبدائية في نمط الحياة اليومية.
- شعبويا: ثقافة الرفض والمقاومة متجذرة نتيجة تاريخية المواجهة سواء مع استبداد العثمانيين، أو مع قدوم الاستعمار للمنطقة، خاصة مع ترسخ ثقافة المقدسات والمحرمات الثقافية والدينية، والتي كانت تغذي ثقافة المقاومة وحس المسؤولية العالي اتجاه الاحتلال وهدر الكرامة. حتى الأقليات الدينية والعرقية كانت تسابق الشعوب في موقفها الرافض للاحتلال الصهيوني، فضلا عن الأحزاب السياسية والمعارضة والنخب التي كانت تعزز شعبيتها بمواقفها الرافضة للاحتلال، وتبنيها لخط المقاومة والمواجهة وعدم الاعتراف، تماشيا مع الرغبة والخيار الشعبي القطعي في الرفض وفي خيار المقاومة كخيار وحيد في مواجهة الاحتلال.
مارست بعض الأنظمة والأسر المالكة للحكم في تلك الحقبة ازدواجية صارخة سعيا منها للحفاظ على الملك، وتثبيت أركانها على العروش الممتدة من بلاد الشام إلى الحجاز.
فكانت تعلن مواقفا تتماشى مع رغبة الشعوب، لكنها تمارس سياسات تحت الطاولة، تتواطأ فيها على خيارات الشعوب ضمن ضروراتها في الحكم والاستمرار.
فمكنت الاحتلال الصهيوني من خلال مجموعة اتفاقيات سرية، كما فعل ملك الأردن في ذلك الوقت عبد الله، والذي كان يملك أكبر عدد من الجنود في جيشه، لكنه لم يسمح لهذا الجيش بالمشاركة في معركة المواجهة مع الصهاينة الهاجانا خاصة، بل تواطأ مع الصهاينة لدرجة أن جولدا مائير تنكرت بثوب عربي لتدخل مزرعته وتلتقي به وتملي عليه أوامرها لإكمال مخطط الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ونتيجة انكشف خياناته قام شخصا بقتله لأنه اتهم ببيع فلسطين.
فكانت أغلب الأنظمة تظهر مواقف سياسية تتوافق مع رغبة الشعوب في تلك الفترة التاريخية، وهي مواقف رفض للاحتلال، وعدم اعتراف بالصهيونية كدولة، لكن كانت في الواقع تعقد اتفاقيات بيع لفلسطين والفلسطينيين.
ومن المواجهات الشاملة التي قادتها الجيوش العربية ضد الاحتلال في عام ١٩٤٨م والمقاومات التي تحركت لمواجهة الكيان الصهيوني، ورغم حجم المجازر التي ارتكبت في حق الفلسطينيين والتهجير، إلا أن المقاومة والرفض كانا الخياران الوحيدان عند الشعوب.
إلا أن تواطؤ بعض الأنظمة وفق سياسات تحت الطاولة، عمدت القوى الكبرى الداعمة للكيان الصهيوني للعمل على مراحل تدرجت من تواطؤ كثير من الحكام ، ومن ثم بدأت الخيانة تتسرب هرميا لتصل لمد الجيوش بأسلحة؛ فاسدة توقع بهم خسائر وهزائم جسيمة كما حدث مع الجيش المصري في حربه مع الصهاينة في عا ١٩٦٩م، ثم دخلت الشعوب مرحلة النكسة ورغم الانتصار في حرب أكتوبر، إلا أن هذا الانتصار أعقبه خيانة كبرى لدماء الشهداء وخيارات الشعوب من خلال معاهدة السلام“الاستسلام“ كامب ديفيد مع حاكم مصر أنور السادات، وما تمثله مصر في ذلك الزمن من ثقل سياسي محوري يقود الشعوب، ومن بوابة هامة جغرافيا وفكريا وسياسيا في المنطقة، وكان حلم الصهاينة منذ احتلالهم فلسطين تطويع مصر.
ومن تلك المعاهدة انطلقت عملية كي وعي الشعوب وبدأت الأنظمة تدريجيا تقود الخيارات ومصير شعوبها نحو التطبيع وتأطير المقاومة جغرافيا وثقافيا.
ولكن استمر نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال مع تعاضد قوى التزمت خيار المقاومة ورفض خيار التطبيع، إلى أن جاءت أوسلو ولكن هذه المرة بأيدي فلسطينية، قسمت الشعب الفلسطيني بين خيار الاستسلام بشعار السلام، وبين خيار المقاومة واستمرار معركة التحرير.
وانقسمت بذلك الشعوب وتآكل وعيها بين خيار المقاومة كخيار وحيد، وبين خيار التطبيع والسلام كخيار بديل.
إعلان ترامب: تحديات الراهن
يأتي إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل السفارة الأمريكية للقدس واعتبارها العاصمة للكيان الصهيوني، وهو الهدف المرسوم منذ قيام هذا الكيان، لكنه كان ينتظر الوقت المناسب وتوفير غطاء ديني وقومي يتمثل بدولتين مهمتين في العالم العربي، هما مصر وتاريخها القومي العروبي وامتدادها التاريخي، والسعودية وما تمثله من ثقل ديني يتمثل في وجود مكة والمدينة فيها من جهة، وتصديها لقيادة العالم الإسلامي من جهة أخرى من خلال ثروات النفط التي مكنتها من نشر فكرها الديني الوهابي في أصقاع الأرض.
هذا الغطاء الذي أكمل المشهد الذي صنعته أمريكا خلال عقود من الزمن بدأت من احتلال فلسطين، ومرورا بمعاهدات السلام التي باعت القضية الفلسطينية وشعبها وغيرت خيارات قسم كبير من الشعوب العربية والشعب الفلسطيني، إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني اقتصاديا وسياسيا من خلال تبادل دبلوماسي وتجاري بين الكيان الصهيوني ودول محورية في المنطقة كمصر والأردن وعمان وقطر والبحرين والآن السعودية، حتى وصل الأمريكي إلى أهم سبب لإكمال مشهد اغتيال الوعي وإكمال صفقة بيع فلسطين وهو صمت مصر وقبول السعودية وهو ما ترجمه غياب كل من مصر والسعودية عن الاجتماع العاجل لقمة التعاون الإسلامي، رغم تداعي جامعة الدول العربية لعقد قمة عاجلة لمناقشة صاروخ أطلقه اليمن دفاعا عن النفس على الرياض، وهذا التداعي جاء فقط لاتهام إيران الداعمة لحركات المقاومة بهذا الصاروخ، ولم يحرك قرار ترامب المخالف لقرارات الجمعية العمومية للأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن، لم يحرك هذه الجامعة ولا أغلب أعضائها ليس لعقد قمة عاجلة بل حتى لحضور القمة الإسلامية لإظهار موقف بهذا الصدد. وكما ينقل عن المفكر العربي محمد حسنين هيكل حينما سئل حول متى يمكنهم اعتبار القدس عاصمة الكيان الصهيوني وتنقل أمريكا سفارتها إلى القدس، فرد قائلا : حين توافق السعودية وتصمت مصر. وهذا ما حدث.
إضافة إلى دور كثير من النخب والأحزاب في لعبة كي وعي الشعوب، ومحاولة تسلقها على القضية الفلسطينية والتسابق على أبواب السفارة الأمريكية لتقديم فروض الولاء والطاعة، وما تمثله هذه النخب والاحزاب من ثقل في وعي جمهورها، كنموذج سلوكي يتم الاقتداء به.
لكن ما هو وجه الاختلاف اليوم بين وعد بلفور وإعلان ترامب؟
وجه الاختلاف هو التالي:
– تحرير جنوب لبنان بهزيمة كبيرة للجيش الصهيوني وهي الهزيمة الأولى بعد معاهدات السلام المذلة، وتدمير أكذوبة الجيش الذي لايقهر، وإخراج المحتل ذليلا على يد مجموعة من المقاومين كل ما يملكونه من أسلحة كانت الكاتيوشا والرشاشات ومدافع أحدثت توازن رعب على مستوى جنوب لبنان وشمال فلسطين، هذا فضلا عن العمليات النوعية التي تكثفت ضد المحتل وعملائه اضطره إلى جر ذيول الهزيمة والانسحاب.
– انتصار تموز عام ٢٠٠٦ على الكيان الصهيوني الذي تحالف معه العالم أجمع بما فيها دول عربية وإسلامية لإنهاء ظاهرة المقاومة في جنوب لبنان وإرضاخ كل حركات المقاومة لعملية سلام كبرى، إلا أن ذلك باء بالفشل على يد المقاومين في لبنان الذين صمدوا بل ألحقوا بالعدو الصهيوني هزيمة نكراء شكلت على أثرها لجنة فينوغراد الصهيونية للبحث في أسباب الهزيمة، وهي سابقة تاريخية منذ نشأة هذا الكيان الغاصب.وجاءهذا الانتصار ليكمل مسيرة انتصارات الانتفاضة الفلسطينية في الداخل ويعيد فيها الحياة محددا لاكمال مسيرة الانتصار. فكان هناك نصر في الخارج على حدود فلسطين ونصر على يد المقاومة الفلسطينية في الداخل في عامي ٢٠٠٨ و٢٠١٢ ، تغيرت خلالها تكتيكات المقاومة الداخلية وآلياتها وقدراتها العسكرية، وبدا واضحا انتقال خبرات المقاومة اللبنانية إلى الفلسطينية في الداخل، كما نقلت المقاومة الفلسطينية خبراتها للبنانيين في بدايات العمل المقاوم في لبنان.
– اكتمال محور المقاومة بعدته وعتاده وانتصاره على التطرف الداعشي الذي واجه المقاومة بحجج مذهبية إلا أن مشغليه الحقيقيين وفق الوثائق كانوا أمريكا والكيان الصهيوني وباعتراف هيلاري كلينتون ذاتها. وهذا المحور وصل إيران داعمة حركات المقاومة مع العراق الذي أعلن تحرير أراضيه بالكامل من داعش وبيد أبنائه، مع سوريا التي انتصرت على محاولات تقسيمها وإرضاخها، إلى لبنان الذي نجح بمعادلته الذهبية : المقاومة والشعب والجيش وحقق انتصارا بتعاضد مقاومته مع الجيش والشعب على داعش في عرسال، المنطقة التي شكلت انطلاق الحرب على سوريا ولبنان من قبل المتطرفين، مع المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج بكافة توجهاتها، وعاد شعار ” للقدس رايحين شهداء بالملايين” ليصبح أيقونة ترددها كل الشعوب المنتفضة رفضا لقرار ترامب.
– تجهيزات عسكرية عالية جدا في محور المقاومة وخبرات قتالية كبيرة راكمت مبدأ توازن الرعب مع الكيان الصهيوني، الذي بات يحسب حساب لخطواته ونزعاته التوسعية والعسكرية، بعد أن كان يجول ويصول في منطقتنا من فلسطين إلى لبنان إلى العراق إلى مصر إلى سوريا.
– إعلان صريح من قيادة المقاومة بلم شمل المقاومين والحركات المقاومة، والتفرغ لفلسطين والقدس كأولوية يجب وضع استراتيجية عمل لها، والتصدي لهذا القرار بطريقة قد يكون بها بداية نهاية الصهاينة. وهو ما تناقلته وسائل الإعلام الصهيونية بجدية عالية وأبدت مخاوف حقيقية من هذا الإعلان، ومراجعة صريحة لمستقبلها الوجودي.
– تداعي كل الشعوب مجددا لأجل القدس رغم كل محاولات كي الوعي، وتشتيت الأولويات، و تكبير السجون بسجن المعارضين وقمع الآراء، وازدياد حالات الفقر نتيجة سياسات التقشف التي تمارسها الأنظمة من جيب الشعوب، وخندقة الشعوب مذهبيا وقوميا، إلا أن إعلان ترامب أزال كل الحواجز، وأعاد الهم الأول لها فلسطين. ولم شمل الحركات الفلسطينية المقاومة، وعلت أصوات من مواقع الحكم تطالب بإلغاء كل معاهدات السلام والاتفاقيات مع الكيان الصهيوني وأمريكا .
– انكشف رؤوس الخونة من السياسيين والحكام والنخب والشعوب، وهو ما سيعمد إلى عزلهم مع التقادم في حال استمرار نهضة الشعوب وإصرار محور المقاومة على التحرير، وإنهاء وجود الكيان الصهيوني.
– فتاوى دينية من النجف والأزهر بالدفاع عن القدس بكافة الوسائل، فأي صحوة تتطلب موارد حركية متمثلة بالنخب
وموارد دينية متمثلة بالمؤسسات الدينية.وهذا ما لم يكن متوفرا أو نادرا في السابق.
فبعد وعد بلفور كنا نتحدث عن مصيرنا ووجودنا وكنا نخرج من هزيمة إلى خيانة، واليوم بات الصهاينة قلقون على وجودهم ومستقبلهم، فبعد أطماعهم التوسعية من النيل إلى الفرات باتوا يناقشون إشكالية الوجود ومستقبلهم في المنطقة، ونحن نخرج من انتصار إلى انتصار ومن إنجاز إلى إنجاز وحققنا توازن رعب دفع الصهاينة لدقة حساباتهم في أي حرب قادمة، وباتوا هم بأنفسهم يمارسون سياسة النأي بالنفس خوفا على وجوده ومستقبله في المنطقة.
هذا فضلا عن أن خيار الشعوب دوما يتقدم على ضرورات الأنظمة، وأن الشعوب هي من تمثل دوما العلامة الفارقة ، لكن نحتاج وقفة نقدية للذات لتكتمل مسيرة الانجازات على كافة الاصعدة.
فاليوم المطلوب هو تجريم التطبيع و التخلص من كل اتفاقيات ومعاهدات السلام مع أمريكا والكيان الصهيوني، ورص الصفوف لاعتبار الخيار الحقيقي هو خيار المقاومة والرفض كما كان بعد وعد بلفور، وتجاوز كل الأنظمة العميلة بعزلها، وفضحها أمام الشعوب،
وقفة مع الذات:
رغم هذا الجانب المشرق من وضعنا كشعوب في وجه الصهاينة مقارنة مع الماضي، إلا أننا نحتاج مع ما نملكه القدرات والنهضة العسكرية نهضة موازية في الثقافة والفكر والعلم.
وهذا يتطلب مواجهة شاملة مع الذات ودراسة الحاضر ومعرفة مواطن التكرار والوراثة للماضي بعلله وسلوكه المنحرف، وهو ما عمدت إليه بعض قوى المقاومة لمعرفة نقاط الخلل من الناحية العسكرية والجغرافية، واستفادة منه في تحقيق الانتصارات، لكننا نحتاج مواجهة وقراءة للتاريخ لتلمس نقاط الضعف والثغرات من الناحية العلمية و النهضوية، لماذا لم نعد خير أمة، كيف يمكننا امتلاك المكنة والاقتدار والاكتفاء الذاتي ؟ وما هي الآليات السليمة والطرق القويمة لذلك؟
إن إعادة التصنيع للتاريخ تتم على ضوء معطيات الزمان والمكان والمنجزات .
فمراكز القوة تكمن في :
- – امتلاك الفكر والنظريات الخاصة بالانسان والسلطة والحقيقة والوجود.
- – امتلاك القدرة الانتاجية والصناعية، وبالتالي القدرة الاقتصادية الناظمة لحياة الفرد والمجتمع والدولة، والعلاقات بينهما وبين الخارج.
- – التحصين العسكري الوازن الردعي وليس الهجومي بما يحقق الأمن و يحدث توازن رعب.
قراءة أهم ما عليه الغرب :
- – التحرر من سلطة الدين الكنسي المتمثل في سلب الحق في التفكير وتطوير العقل والممارسة للأبوية الرعوية.
- – أطلق العنان لعقله في التفكير والاكتشاف والنهضة
- – أنتج معرفة و علم، ثم هيمن على الطبيعة
- – فصل مسارات حياته كافة عن الأساس الأخلاقي، فبات نزعته التوسعية طاغية واقتنع كونه أمة متقدمة متحضرة عليها قيادة الامم المتخلفة لقيمها.
- – امتلك مكتة صناعية وإنتاجية وعسكرية للردع والهجوم والهيمنة
أما حالنا نحن في قراءة سريعة لا ادعي شموليتها:
- – ايغال في الأساطير والماضي بشعارات دينية.
- – استبداد مستفحل وكاتم على كل المحاولات النهضوية.
- – نتيجة الاستبداد العثماني طغت مطامع السلطة والنفوذ على كثير من العوائل التي تطلعت للحكم حتى لو تنازلت عن كل مبادئ الأمة وباعتها.
- – قلة الوعي والتجربة، وبالتالي وهن مكن الآخر من تحقيق مخططه.
- – تكاتف الأنظمة ضد الشعوب وأشغالها بالنزاعات المذهبية، أو البحث عن لقمة العيش، أو إفقارها لسلبها القدرة على التفكير بالتغيير .
- – تغيير أولوياتها، بسبب الاستبداد والإفقار.
وخلاصة القول أن التخلص من كل أشكال الاستبداد والتخلف، هو الخطوة الأولى نحو النهضة بكافة أشكالها. بما فيها التحرر من كل أنواع الاستعمار المباشر والغير مباشر، وتحرير العقول والقلوب والجغرافيا، فعلى مر التاريخ الممتد من وعد بلفور إلى إعلان ترامب كانت الأنظمة المستبدة في أغلبها الخائنة لشعوبها والموطئة لمزيد من تمكين الصهاينة وإهدار كرامتنا وهدر مقدراتنا، وقد أثبت التاريخ أن الشعوب حينما تريد وتنتفض تفرض خياراتها على ضرورات أنظمتها، فالعمل عليه أن يكون وفق خيار المقاومة العسكرية في وجه العدو الصهيوني وراعيه، ومقاومة ثقافية وفخرية على مستوى الشعوب للتخلص من خونة الداخل من نخب وأنظمة.