مقدمة:
عند صدور قانون إقامة الأجانب في الكويت، في العام 1959، استثنت الفقرة (د) من المادة 25 «أهل القبائل والعشائر الذين يدخلون الكويت براً من الجهات التي تعودوها لقضاء أشغالهم المعتادة». ومن استوطن من هؤلاء أصبحوا يُعرفون بال»البدون»: «بدون جنسية»، تُعنى بهم «اللجنة التنفيذية لشؤون المقيمين بصورة غير قانونية». تكثر الاعتراضات الحقوقية على إلحاقهم بهذه اللجنة ووصف وجودهم بغير القانوني، لأن تلك الفقرة (د) تشير الى مشروعية وجودهم على أرض الكويت. وكدليل على شرعية الإقامة، كانت الحكومات الكويتية تقوم باستقطابهم في سلكي الجيش والشرطة، وفي شركة النفط وفي مختلف الوزارات. وهكذا تغلغلت أجيالهم في كل مفاصل الدولة بما فيها أكثرها حساسية. وفي العام 1987، صدر تعديل لقانون إقامة الأجانب ألغى المادة 25. ولكن هناك طعناً في دستورية التعديل لأنه حصل في فترة تعليق الدستور. وبكل الأحوال، فلا يمكن تطبيقه على «البدون» المقيمين في الكويت قبل التعديل المذكور، وذلك وفقاً للقواعد القانونية العامة.
وفي مقابلة للشيخ فهد الأحمد، ذكر العشائر «الشمالية» التي قاتلت مع الشيخ مبارك الكبير «مؤسس الكويت الحديثة» منذ معركة الصريف العام 1901، ثم معركة الجهراء العام 1920 ضد الاخوان. وذكر بالاسم عشائر الزيّاد، وبني حسين (الحسيني)، والشريفات، والبدور، واليوارين. وهؤلاء هم أجداد البدون الحاليين. الغالبية العظمى منهم هي إذاً عشائر جاءت من الشمال (العراق)، وبعضهم تعود أصوله للمملكة العربية السعودية. وهناك بعض العوائل التي تعود أصولها لإيران. وكلهم نزحوا إلى الكويت قبل اكتشاف النفط، وقبل الاستقلال.
التعداد:
بلغ تعداد فئة غير محددي الجنسية في الكويت، طبقا لبيانات هيئة المعلومات المدنية، 220 ألف نسمة في حزيران / يونيو 1985. ثم انخفض تعدادهم الرسمي إلى حوالي 118 ألف نسمة وفقاً لإحصائيات نيسان/ إبريل 1991، بينما يقدر تعداد من بقي من البدون في نهاية التسعينيات داخل الكويت بـ120 ألف نسمة، منهم 55 في المئة دون سن الخامسة عشرة. ويصل معدل الإعالة في عائلاتهم إلى 7 أفراد في المتوسط، وتبلغ نسبة من هم دون التعليم المتوسط 87 في المئة حالياً، حيث ازدادت نسبة الأمية في صفوفهم بعد عام 1990. كما يوجد عدد كبير منهم في المهاجر. ووفق ناشط حقوقي في قضية «البدون»، فإجمالي عدد المسجلين في اللجنة هو 135 الف شخص لعام 2008. ويذكر أن هناك أكثر من 15 ألف لم يتم تسجيلهم لأسباب عدة. فمنهم من لم يقبل أن يسجل كـ«مقيم بصوره غير قانونية» لأنه يرى نفسه مواطناً، وبعضهم كانت ملفاته لدى مجلس الوزراء للتجنيس، وهؤلاء لا تختص لجنة البدون بهم، وهناك من خشي التسجيل رغم امتلاكه وثائق قانونية قديمة لما يترتب على إقراره بأنه «مقيم بصوره غير قانونية» من تبعات.
وحتى 1970، كان يتم احتساب البدون ضمن تعداد السكان كويتيين، فكان هؤلاء نصف مليون. ثم تغير الامر وأخرجوا من التعداد، وأصبح عدد الكويتيين 300 ألف. والسبب الرئيسي وراء تغير هذا المنهج يعود الى تنظيم إنتاج النفط. فقد كانت «أوبك»تحتسب حصة كل دولة وفق عدد أفراد مواطنيها، وكان إدماج البدون في التعداد يعود بالنفع على السلطات الكويتية. وبعد أن حولت أوبك نظامها الى حصص لكل دولة، انخفض تعداد السكان الكويتيين في الكويت! ومع ذلك، ومنذ الاستقلال، كانت السلطات الكويتية تعامل أبناء البدون معاملة الكويتيين باستثناء التمتع بالحقوق السياسية. وإلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لم يكونوا يعانون من التمييز في الوظائف والحقوق.
بداية التحولات:
عند منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت سياسة الحكومة الكويتية بالتغير تجاه البدون. وقد انشأت في العام 1986 لجنة سياسية سرية لإدارة شؤونهم، لم تعرف تفاصيل عملها حتى عام 2003 حين نشرت جريدة «الطليعة» ما جرى في أول اجتماع لها. وقد ترأسها الشيخ صباح الأحمد وكان من بين أعضائها وزير الداخلية سابقا، وولي العهد حاليا، نواف الأحمد. حذرت اللجنة من تأثير «البدون» على «الأمن الداخلي»، واقترحت سياسات تضيّق عليهم تقوم على سحب كل الامتيازات السابقة منهم، وعلى منع الصحف من نشر شكاواهم، إضافة الى عزلهم الممنهج. فتم مثلاً إخراجهم من المدارس الحكومية، بحجة خفض الكلفة على الحكومة و«تحسين وضع الطالب الكويتي»، وكان يصعب عليهم الالتحاق بالمدارس الخاصة لارتفاع كلفتها. وأوصت اللجنة بفصلهم من الوظائف الحكومية والتضييق عليهم في القطاع الخاص، كما تركيز سكناهم في مناطق محددة، هي الصليبية وتيماء والأحمدي. وكل ذلك يتبع إجراءات معقدة تستند الى شروط صعبة التنفيذ توضع عليهم، وتؤدي في نهاية المطاف الى التضييق على حقهم في السكن والعمل، مما انتج زيادة نسبة الأمية بينهم وتفشي الجريمة.
أسباب التضييق:
إعلان العراق المتكرر رغبته بضم الكويت أثار مخاوف لدى السلطة الكويتية، كون غالبية البدون يعودون لعشائر عراقية الأصول. كذلك كان للعداء مع إيران نصيبه، إذ يعود أيضا كثير من البدون في أصولهم التاريخية لإيران. ثم إن غالبية البدون من الشيعة. ولا توجد إحصائية رسمية بخصوص الانتماءات المذهبية، ولكن الإحصائيات غير الرسمية تذكر أن نسبة الشيعة من البدون قد تصل الى 70 في المئة منهم، وذلك لأن معظم من ينتمي لقبائل جنوبية (أي سعودية) قد تم تجنيسهم منذ وقت طويل، ويقدر تعدادهم بـ70 الفاً. ومارست السلطة الترغيب والترهيب لإجبار البدون على تعديل أوضاعهم، منها دفعهم للحصول على جوازات من الدول التي «تشكل أصولهم التاريخية»، برغم أن أغلب سكان الكويت عموماً تعود أصولهم لدول الجوار. وشراء جوازات من دول الدومينيكان تحت وطأة التهديد غالباً، خاصة لفئة العسكريين الذين هُدِّدوا بفصلهم من العمل، فوافق البعض ورفض آخرون فُصلوا فعلاً. وكان شراء جوازت تلك الدول يتم الترويج له في أروقة الجهاز المركزي للبدون بعلم من قيادات وزارة الداخلية.
وبحسب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمنظمة «هيومن رايتس ووتش»، وعدت الكويت في العام 1999 بتقديم إعانات اجتماعية وتصاريح إقامة لمدة خمس سنوات إلى الأفراد من فئة «البدون» الذين يتخلون عن المطالبة بحقهم في الحصول على الجنسية الكويتية. وكان أمير الكويت الراحل الشيخ جابر الصباح أصدر مرسوماً عام 1999 يقضي بمنح الجنسية لـ2000 من البدون سنوياً. ولكن العمل بالمرسوم أوقف بحجة اعادة بحثه في مجلس الأمة الكويتي. وفي أيار/مايو 2000، أقر البرلمان الكويتي تعديلاً قانونياً يجعل ما يقل عن ثلث فئة «البدون» مؤهلين للتقدم بطلب لاكتساب الجنسية الكويتية. وقد صرحت منظمة «هيومن رايتس ووتش» وقتها بأن عدد الذين نجحوا في اكتساب الجنسية مع استحقاقهم لها بالغ الضآلة، وأن الكثيرين ممن اكتسبوا الجنسية لا ينتمون إلى فئة «البدون». والمقصود تجنيس أشخاص من دول الجوار.
وفي عام 2011، تحولت «لجنة المقيمين بصورة غير قانونية» إلى «الجهاز المركزي للمقيمين بصورة غير قانونية». وقام الجهاز المركزي بإرسال كتاب إلى الهيئات والوزارات بعدم التعامل مع فئة «عديمي الجنسية». وتسبب ذلك بردود فعل غاضبة، فادّعى بأن الهدف من موقفه هو المحافظة على حقوق المقيمين بصورة غير قانونية، إذ «لا يجوز لأي جهة الانفراد باتخاذ اي اجراءات تتعلق بالتعامل مع اوضاع المقيمين بصورة غير قانونية من دون التنسيق مع الجهاز…»
مواقف واتجاهات حول القضية:
تتباين موقف النواب في مجلس الأمة الكويتي بين مؤيد للتجنيس، وهم قلة، ومؤيد لإعطاء الحقوق المدنية لفئة البدون، ورافض للتجنيس تحت شعار «المساس بالسيادة». وبعض النواب، لارتباطه بشبكة مصالح مع السلطة التنفيذية، كان يرفض أصلا حتى إقرار الحقوق المدنية. وحيث أن هناك مصاهرات بين عوائل البدون وبين سائر الكويتيين، فقد كان عدد من النواب يستغل فترة الانتخابات ويتبنى قضية تجنيس البدون، ثم ينسى بعد ذلك وعوده. وفي عام 2009، اتفقت الأغلبية النيابية على إقرار الحقوق المدنية لفئة البدون»، وكانت بصدد عقد جلسة نيابية للتصويت على ذلك، مما أحرج السلطة التنفيذية، خاصة أن الكويت وقعت على كثير من المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. فتمت محاصرة مجلس الأمة بعدد كبير من قوات الشرطة والجيش، وأغلقت المنافذ، وحوِّل السير. وهكذا لم يكتمل النصاب في مجلس الأمة وألغيت الجلسة المقررة. وجرى تسويف إقرار القانون.
وثمة مشكلة أعقد، فتفاعل المجتمع الكويتي نفسه مع قضية البدون ضعيف، بل يتبنى جزء منه مواقف مؤيدة للحكومة. فقد نجحت السياسة التي اتبعتها السلطات بعد العام 1986 بعزل البدون عن سائر مكونات المجتمع. وهذا، علاوة على التعتيم الاعلامي، أدى إلى تجاهل القضية وتجهيل المجتمع بها. كما كان للخوف الذي هيمن على كثير من البدون نتيجة التهديدات، أثره في توقفهم عن أي حراك للتعريف بقضيتهم. وهناك من جهة ثالثة سوء حال بعض شخصياتهم المتصدية لقضيتهم، إما لانتهازيتها أو لتواضع قدراتها، مما ساهم بتفويت فرص كان يمكن استغلالها لتحقيق المطالب. ولا يمكن إنكار أثر هجرة النخب وأصحاب الشهادات العليا والمتنفذين من البدون لخارج الكويت بعد 1991، نتيجة سياسة التضييق. وهناك أخيراً ترويج الحكومة لفكرة الربط بين قضية البدون ومسألة السيادة، والمساس بالأمن الداخلي للكويت، والاستقرار الاجتماعي، وتكريس نظرية تسرب كثير من «البدون» للكويت إبان الغزو العراقي 1990، وبقائهم فيها بعد ذلك، وهو ما كرس التفاف الجمهور الكويتي حول إجراءات الحكومة. لكن هناك تعاطفاً عاماً مع مطلب الحقوق المدنية الذي تتبناه مؤسسات المجتمع المدني الكويتية.
وبالمقابل، تصدت نخب البدون المهاجرة للتعريف بقضية هذه الفئة، واتسعت دائرة النشاط الحقوقي، وأبدت عدة منظمات دولية اهتمامها. ففي عام 2012، انتقدت منظمة «هيومن رايتس ووتش» الكويت بسبب إساءة معاملة نحو 100 الف من «البدون»، قائلة إن الدولة لم تعترف بحق هؤلاء بالحصول على الجنسية أو الاقامة الدائمة بينما هم يقيمون في البلاد منذ فترة طويلة. وأضافت المنظمة ان هؤلاء «يواجهون قيودا في الحصول على الوظائف والرعاية الصحية والتعليم والزواج وتكوين اسرة»، داعية الحكومة الكويتية إلى الاعتراف بحقهم في الحصول على الجنسية. كما طالبت المنظمة بإطلاق سراح من اعتقل منهم بعد تظاهرات، كانت سلمية تماماً إلا انها جوبهت بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي وأوقعت جرحى. بدأ ذلك في شباط/فبراير 2011. ومذاك، تكررت تظاهرات «البدون»، ووصل الامر بها الى المطالبة بـ«الحق بالزواج»، لأن السلطات لا تستخرج لهم عقود زواج، ولا إثباتات رسميه، ولا شهادات ميلاد ولا حتى شهادات وفاة!